هذا الكتاب
هذا الكتاب هو خلاصة للغوص في بحار عدد من العلوم و الفلسفات الشرقية و الغربية المعقدة ، بعضها يضرب في القدم إلى أبعد عهود الحضارة و بعضها يدين بالفضل إلى أحدث اكتشافات معاهد العلوم الماورائية الحديثة Paranormal Sciences .
و كنت قد عكفت طوال تسع سنوات ، هي الفترة من عام 1996 و حتى الآن على جمع و دراسة كل ما يتعلق بالتراث الغيبي في العالم ، و قد وفقني الله للعثور على مصادر موثوق بها ، تنوعت ما بين كتب و مخطوطات محققة و غير محققة ، على الرغم من تشتتها و تبعثرها بين دور الكتب و المتاحف و المكتبات العالمية ، كما تيسر لي الاتصال بعدد من العلماء و الباحثين و كبار الكتاب المتخصصين في هذا المجال ، لم يدخروا وسعا في سبيل إمدادي بالمعلومات و مصادر البحث في هذا الحقل العلمي الوعر و المثير في آن .
كما كان للتجربة العملية أكبر الأثر في تحويل الجانب النظري إلى مبتغاه الأساسي – فالمحك الحقيقي لأي نظرية هو الجانب التطبيقي منها – حيث مارست بنفسي عددا من الرياضات النفسية و الذهنية و البدنية ذات الطابع الماورائي و التي ساهمت في شحذ طاقاتي الخاصة ، بل و التي كان لها أعظم الفضل في شفائي من بعض الأمراض التي عانيت منها زمنا طويلا – كما سيرد في تجربتي الشخصية في هذا الكتاب – و من هذه الرياضات : " هاتا يوجا " Hatha Yuga ، " راجا يوجا " Raja Yuga ، " كونداليني يوجا " Kundalini Yuga و " الأوتوترينينج " Auto Training أي ( تدريبات الشحن النفسي الذاتي المولد للطاقة ) .
و حينما راجعت مؤخرا كم المصادر العلمية التي تمكنت بفضل الله من اقتنائها آثرت أن أبثها في المكتبة العربية لعدة أسباب ، من أهمها :
1- إفادة أكبر عدد ممكن من القراء عن طريق نشر هذا اللون من المعرفة ذات الفائدة الجبارة و التي أثبتت الأبحاث العلمية فعاليتها التي لا تنكر ، ( أنظر على سبيل المثال لا الحصر مدى النجاح الهائل الذي أصبح يحققه واحد من أشهر أساليب الطب البديل حاليا ، ألا و هو العلاج بالإبر الصينية ، و الذي يعتبر واحدا من عشرات العلوم الماورائية و التي سنستعرضها تباعا ) .
2- اللحاق بركب المكتبة الدولية في هذا المجال الذي أصبحت تؤلف فيه ملايين الكتب و النشرات و الدوريات ، و تؤسس من أجله الجامعات و المعاهد و المعامل و مراكز التدريب و العلاج على مستوى العالم ، هذا في الوقت الذي ما زلنا فيه للأسف الشديد خارج نطاق الركب العالمي ، و تكاد المكتبة العربية تخلو من الدراسات الجادة الرصينة في هذا المجال ، فيما عدا المؤلفات المعتادة و التي لا يتعدى معظمها في نظري مجال الإثارة و قصص الخوارق و أدب الخيال العلمي !!!
3- العودة بهذه العلوم و الفلسفات إلى ما يليق بها من رصانة الكتابة العلمية ، محاولة لتخليص مفهوم " العلوم الغيبية " و " العلوم الماورائية " من اشتباكات و مغالطات الجهل التي خلطت بينها و بين ألاعيب الدجالين و حيل السحرة ، و هو الأمر الذي أدى للأسف – إلى جانب أسباب اجتماعية و اقتصادية أخرى تخرج عن نطاق هذا الكتاب – إلى استشراء خطورة هذا القطاع الجاهل من المشعوذين الذين يتاجرون بجراح الناس و يبتزون أوجاعهم و أحلامهم ، بل و ينجحون أحيانا في اختراق عقول المثقفين !!!
و قد آليت على نفسي أن أشرع بعون الله في كتابة سلسلة من الدراسات التي تغطي المجالات المختلفة لعوالم القوى الماورائية تحت مسمى " سلسلة القوى الخفية " ، بحيث تصدر تباعا في هيئة كتب مسلسلة لكل منها عنوانه و موضوعه الخاص الذي يسبر جانبا من موضوعات هذا العالم الخفي .
و من جميل توفيق الله سبحانه تيسير الأسباب لترى هذه السلسلة النور على يدي السيدة الفاضلة " هالة عمر " رئيس مجلس إدارة مؤسسة " هلا للنشر و التوزيع " ، وهي السيدة التي لمست فيها مضاء عزيمة و حبا للمغامرة قل أن يتوافرا في الكثير من الرجال ، فلها مني الشكر على حماستها التي وطدت إصدار هذه السلسلة .
و لما كنت أتمنى لهذه السلسلة أن ترى ذيوعا و انتشارا بين كافة طبقات القراء و المثقفين ، فقد قمت بتخليص نظريات هذه العلوم من التعقيدات الفلسفية – و بعضها موغل في الصعوبة – كما حصرت كلا منها في موضوعه ميسرا و مقدما خلاصتها للقارئ دون تهافت في التبسيط ، ليتمكن الجميع من الاستفادة منها على تنوع مستوياتهم التعليمية و الثقافية .
و لما كنت قد لاحظت أن عددا كبيرا من هذه العلوم و الفلسفات يشترك في الإلحاح و التأكيد على موضوع بعينه ، هو ما يمكن أن نسميه ( مراكز الطاقة الخفية الكامنة في جسم الإنسان ) ، فقد رأيت من المنطق أن أبدأ الاستهلال به لهذه السلسلة للسبب المذكور من جهة ، و من جهة أخرى ليكون بمثابة ركيزة عملية يستطيع من خلالها من يطمح إلى إيقاظ طاقاته الخفية و إتقان علوم الطاقة الخفية أن يقوم بتحضير نفسه عمليا عن طريق البدء ببناء ترسانته الخاصة من الطاقة الروحية / النفسية الكامنة في الجسد و التي أصبح من المسلم به أنها هي الركيزة الأساسية التي لا غنى عنها لجميع أساتذة الظواهر الخارقة البارزين في هذا المضمار .
و في هذا الصدد لا يسعني إلا أن أتوجه بمزيد العرفان إلى عدد من العلماء و الأصدقاء و الفضلاء الذين لولاهم لما رأت هذه السلسلة النور ، و هم :
1- السيد " ألبرت إجناتنكا "Albert Ignatenka العالم الروسي الأشهر في مجال الباراسيكولوجي Parapsychology و مدير معهد " الإيزوتيريك " Esoteric بأوكرانيا ، على إسهاماته الثمينة في مجال " الأوتوتريننج " .
2- السيد " يوري جيللر " Uri Geller صاحب الظواهر الخارقة و الشهير عالميا في مجالات " السيكوكينزيس " Psychokensis ، على شروحه المسهبة لتقنيات الظواهر النفسية المؤثرة على المادة .
3- الدكتور " دونالد هيل " Donald R.Hill أستاذ تاريخ العلوم العربية و زميل جامعة " أدنبرة " Edinburgh ، على بحوثه القيمة في مجال تأصيل الظواهر علميا لدى العرب .
4- السيد " ويكفيلد " C.Wakefield الأمين المساعد بمكتبة " بودليان " ، على تذليله لصعوبات الاطلاع على النسخ الرقمية المتاحة لمقتنيات المكتبة .
5- السيد " فرانسيس ماديسون " Francis Maddison أمين متحف تاريخ العلوم بجامعة " أوكسفورد " ، على مجموعاته الثمينة من المخطوطات و الأصول .
6- السيد " سوامي نيرانجانانادا ساراسواتي " Swami Niranjananada Saraswati أستاذ اليوجا و مدير مؤسسة " بيهار يوجا بهاراتي " Bihar Yuga Bharati ، على إرشاداته الروحية و التقنية في رياضتي " الهاتا يوجا " و " الراجا يوجا " .
7- السيدة " هالة حسين عمر " رئيس مجلس إدارة مؤسسة " هلا للطباعة و النشر " ، على تبنيها لمشروع السلسلة و تذليلها لصعاب النشر و التوزيع .
8- السيد " هاني الأشقر " المدرس المساعد بكلية الفنون الجميلة ، على دعمه النفسي و مساعدته القيمة في دفع الكتاب للظهور .
و الله المستعان و عليه قصد السبيل .
ياسر منجي
القاهرة في 20/12/2004
هذه السلسلة
ما معنى طبائع العناصر ؟ هل هناك قوى للحروف و الأشكال و الأرقام ؟ ماذا تعرف عن أسرار الحضارات القديمة ؟ ما هي قوى اللون و الصوت و الضوء ؟ كيف تستفيد من أسرار الأهرام ؟ ما هو العلاج بالألوان و كيف تزاوله عمليا ؟ كيف استفاد القدماء من أسرار الأعشاب و النباتات ؟ ما هو سر تمتع البعض بالجاذبية الخارقة ؟ ما معنى الحدس ، و ما هي أسراره ؟ ماذا تعرف عن عالم الرموز و أسراره و قواه ؟ هل هناك عن الأبراج غير ما يعرفه عامة الناس ؟ ما هي طاقات الأحجار و المعادن ؟ ما هي الهندسة المقدسة ، و كيف تستفيد من قوى الفراغ المحيط بك ؟ ماذا عرف القدماء عن قوى الإرادة ، و كيف سخروها ؟ ما هي الغرائز ، و ما السبيل إلى السيطرة عليها ؟ ما العقل و ما الروح ؟ ما هي علاقة العقل بالجسد ، و ما علاقة الروح بالعقل ؟ ما معنى " المكتوب على الجبين " ؟ ما هي أسرار خوارق المتصوفة ؟ ماذا تعرف عن قنوات الاتصال بين أجزاء الكون ؟ هل يمكنك أن تستعمل الإيحاء الذاتي و تستفيد من التنويم المغناطيسي ؟
الإجابة على هذه الأسئلة هي بعض طموح هذه السلسلة .
المؤلف
كلمة لابد منها
الكتابة في مجال الخوارق و العلوم الغيبية مغامرة محفوفة بالمتاعب – لاسيما في مجتمعاتنا الشرقية – لعدة أسباب جعلت من رواد هذا المجال - القديم و الحديث في نفس الوقت – هدفا مستمرا للسخرية و الشكوك و الهجوم ، و في أحسن الأحوال الشفقة المشوبة بالتندر و التفكه .
و من أهم هذه الأسباب المتعددة :
1- أن مجال العلوم الغيبية – كما يتضح من اسمه – يختص بهذه الفئة من العلوم و الطاقات التي تنتمي إلى مجالات و حقول و ترددات فائقة من الطاقة ، يتعدى مداها قدرة الحواس البشرية على الإدراك ، و من ثم في تمر بها مرور الكرام دون أن تعيرها التفاتا ، إلا في الحالات التي تكون هناك ضرورة ملحة لإحداث اتصال بين الوعي البشري و بين الأنواع المتعددة لهذه القوى و الطاقات .
و لما كان الإنسان عادة قد تعلم منذ طفولته ألا يثق إلا بما تمليه عليه حواسه بما تلمسه و تشمه و تراه و تسمعه و تتذوقه من آثار العالم المادي ، فقد إنسان العصر الحديث عشرات من الحواس التي كان يتمتع بها أسلافه البشريين من أبناء الحضارات السابقة الذين أصبحت تفصلنا عنهم عشرات الآلاف من السنين ، و الذين تفهموا جيدا طبيعة هذه القوى – كما سوف نرى – بل و طوعوها لبناء حضاراتهم التي مازالت أسرارها المذهلة عصية على الشرح و التفسير .
2- اعتماد مناهج العلوم التجريبية على المشاهدة و تسجيل النتائج التي تتحقق ماديا و معمليا ، مما صبغ عصرنا الحديث بأكمله بهذه الصبغة المادية ، و ذلك نظرا لتغلغل العلم التجريبي و تطبيقاته " التكنولوجيا " في حياتنا المعاصرة بشكل كاسح ، فأصبح اعتماد الناس حاليا في غالب نشاطات حياتهم على الأجهزة و الآلات التي ساهمت في إخماد عدد كبير من الملكات و المهارات التي كان يتطلبها الاعتماد على قدرات الإنسان ، مما جعل بعض الدراسات النفسية تتنبأ بفقدان الإنسان لمعظم ملكاته في عصر قريب بتأثير التقدم المريع للتكنولوجيا . و مما دعم الأمر أن العلم الحديث بمناهجه السابقة الذكر – و التي لا ينكر أحد فضلها رغم ذلك في تيسير سبل الحياة – قد أثر في طريقة تفكير الإنسان المعاصر ذاتها ، فنتج عن ذلك عدد من المفاهيم و الجمل الشائعة التي تشيع في قطاع المثقفين ثم لا تلبث بقية قطاعات المجتمع أن تتلقفها منهم لترددها ترديد الببغاوات مثل : " أنا إنسان متعلم ، لا وجود للغيبيات " ، أو " أنا مثقف ، التفكير الغيبي تفكير متخلف " ، فماذا يقول هؤلاء إذن إذا عرفوا – كما سوف تقرأ – أن كبريات معامل و معاهد البحث العلمي الغربية قد فتحت مجالا لدراسة و اكتشاف هذا المجال ( المتخلف !!! ) و اعترفت به و اعتبرت أن طاقاته هي بمثابة طاقات لم تكتشف قوانينها بعد ؟!!
3- سيطرة الجهل و التخلف لحقبة طويلة على مجتمعاتنا الشرقية لعدة أسباب من أهمها الاستعمار الذي رزح الشرق تحت نيره فترات طويلة من قبل مستعمرين و غزاة و ( فاتحين ) شتى ، ما بين صراعات لأمراء المماليك في مصر و الشام و اكتساح عثماني و احتلال أوربي ...إلخ ، مما ساهم في تكريس طباع التواكل و القدرية و اللجوء للغيبيات في أسوأ صورها ممثلة في الاستعانة بالجن و العفاريت و التبرك بأضرحة الموتى و اللجوء للسحرة و اعتبار البلهاء و المعاقين ذهنيا من أولياء الله الصالحين . كل هذا التراث الأسود طغى للأسف على مفهوم عوالم القوى الغيبية و طبعها بطابعه في أذهان القطاع الأكبر من أبناء الشرق ، مما جعل الباحث فيها مجبرا دائما على شروح مطولة يوضح فيها الفرق بين ما يبحث فيه من علوم رصينة و بين ألاعيب الحواة و الدجالين .
و يثور الآن سؤال هام لابد منه و هو : هل البحث في العلوم الماورائية مما يتعارض مع مفهوم الغيب كما يعنيه الدين ؟
الإجابة المباشرة على هذا السؤال تتضح من الحديث الشريف الذي ورد بصحيح البخاري و الذي نصه :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( مفاتح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، و ينزل الغيث ، و يعلم ما في الأرحام ، و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )) ( 1 ) .
هذه الأصول الخمسة للغيبيات التي لا يجوز أن يدعي أحد المقدرة على الإحاطة بها أو التنبؤ بما سوف يكون من شأنها ، و هي كما نرى لا تدخل من قريب أو بعيد في نطاق ما تنوي هذه السلسلة أن تبحثه ، فنحن لا ننوي – معاذ الله – أن نصدر مصنفات تسفه من قيمة العقل أو تتعارض مع أصل من أصول العقيدة ، إنما الهدف الأساسي كما سبق و أشرت هو الأخذ بطرف من أسرار علوم و فلسفات اكتشفت في أسرار الكون قوانين أودعها الله فيه . هذه القوانين انتبه إليها عباقرة من الأسلاف الذين ساهموا في بعث و ازدهار الحضارة عبر العصور ، بعضها اندثر بفعل الانهيار الدوري المعتاد للحضارات و ترك البعض الآخر بصيصا من الإشارات و الرموز التي كانت بمثابة علامات دالة ساهمت في بعث هذه العلوم و إعادة كشفها من جديد ، و هو الأمر الذي يسير فيه الغرب الآن بخطى حثيثة .
و ربما يلتبس الأمر على البعض نتيجة لاستخدام لفظ " العلوم الغيبية " للإشارة لهذه العلوم ، مما ينتج سوء الفهم و الخلط بينها و بين مفهوم " الغيب الديني " في ذهن القارئ ، و لتوضيح ذلك أقول أن ذلك من قبيل الدلالة الاصطلاحية ، بمعنى أن كلمة " غيبية " هي عبارة عن مصطلح يطلقه البعض على هذه العلوم نظرا لطبيعتها " الخفية " أو " الكامنة " ، و نظرا لأن قوانينها و معادلاتها لم تكتشف كاملة بعد ، فهي ما زالت في رحم الغيب .
و المشتغلون بالبحوث الأكاديمية يعلمون معنى المصطلح تماما ، فالكلمة الواحدة قد يكون لها معنى ما في القاموس ثم تستخدم استخداما دارجا مغاير في المعنى من قبل رجل الشارع ، ثم قد تستخدم استخداما ثالثا مختلف تماما كمصطلح دال في علم من العلوم ، و هذا هو ما ينطبق تماما على لفظة " غيبية " و التي تستخدم كمصطلح من قبل علماء الدين يدل على ما سبقت الإشارة إليه من علم يختص الله سبحانه و تعالى بمعرفته و يقصره على ذاته الإلهية و لا يشرك فيه أحدا من عباده .
و للابتعاد عن هذا الخلط تماما فسوف أستخدم اصطلاح " العلوم الماورائية " للدلالة على ما أعنيه من هذه العلوم ذات المجلات الخفية من الطاقة ، كما أفضل استخدام مصطلح " القوى الخفية " رغم ما يحويه من ظلال مثيرة للخيال .
ثم إن القصص القرآني لا ينفي أبدا إمكانية أن يتمتع بعض البشر بميزات و قدرات تمكنهم من اختراق عوالم القوى الخفية و اجتياز مسالكها الوعرة ، بل إن بعض الآيات تنص على ذلك صراحة ، فيقول سبحانه و تعالى :
(( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما (65) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (70) )) . الكهف 65- 70 .
فالآيات الكريمة السابقة تحدثنا عن لقاء سيدنا " موسى " عليه السلام بأحد الناس الذين وصفهم الله تعالى بوصف [ عبدا من عبادنا ] ، فلم تنص الآيات صراحة على أنه رسول أو نبي ، بل هو إنسان كغيره ، غاية الأمر أن الله تعالى آتاه [ رحمة ] و [ علمه من لدنه علما ] ، هذه
(1) صحيح البخاري ، دار الكتاب اللبناني ، الجزء الرابع ، ص 71 و أيضا ص 99 .
الرحمة و هذا العلم جعلاه يستحق و بجدارة أن يقوم بدور الأستاذ لواحد من أكبر الأنبياء و الرسل و هو " موسى " عليه السلام ، بل و يستأذنه " موسى " في الصحبة فيشترط عليه ذلك العالم شروطا حتى يصحبه ، ثم يكون من أمرهما ما تنص عليه باقي الآيات من أحداث يتمكن فيها هذا العبد العالم أن يهتك أسرارا ماورائية ، يتصرف بموجبها تصرفات قد تبدو للوهلة الأولى أنها غير عقلانية ، و ذلك طبقا لحكم الحواس العادية و ( التفكير المنطقي ) ، ثم نكتشف في ختام الآيات أنها هي عين العقل و عين المنطق طبقا للقدرات التي أتيحت لهذا العبد العالم و التي تصرف بناء عليها .
و الكتب المقدسة على اختلافها تحتشد بمئات من الآيات و النصوص التي تصرح بأن الكون غير مقصور على هذا النطاق الضئيل الذي تتعامل معه حواس البشر بشكل اعتيادي ، بل إنها تدل صراحة في أكثر من موضع على أن هناك عوالم متعددة ذات قوانين و طاقات و ظواهر و أحداث تتجاوز قدرة التصور البشري .
و الآيات سالفة الذكر كثيرة لدرجة أن حصرها يخرج بنا عن نطاق هذا الكتاب و موضوعه ، و لكن نتوقف هنا عند إحدى آيات سورة الذاريات و التي تصرح :
(( و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )) الذاريات (49) .
و هو الأمر الذي يسري على كل شيء في الكون بما فيها المادة ذاتها ، فالكون المادي يتضمن الطاقة بشتى صورها المعلومة و التي ما زالت في طي المجهول بنفس الشكل الذي يتضمن به المادة بصورها و عناصرها المختلفة ، فالعالم إذن عالمان أو زوجان : عالم المادة و عالم الطاقة . * * * *
كان هذا هو تقديم كتابي الأول من سلسلة القوى الخفية ، الذي يجري نشره الآن في دار هلا للنشر و التوزيع و عنوانه " قوى الجسم الخفية " .
هذا الكتاب هو خلاصة للغوص في بحار عدد من العلوم و الفلسفات الشرقية و الغربية المعقدة ، بعضها يضرب في القدم إلى أبعد عهود الحضارة و بعضها يدين بالفضل إلى أحدث اكتشافات معاهد العلوم الماورائية الحديثة Paranormal Sciences .
و كنت قد عكفت طوال تسع سنوات ، هي الفترة من عام 1996 و حتى الآن على جمع و دراسة كل ما يتعلق بالتراث الغيبي في العالم ، و قد وفقني الله للعثور على مصادر موثوق بها ، تنوعت ما بين كتب و مخطوطات محققة و غير محققة ، على الرغم من تشتتها و تبعثرها بين دور الكتب و المتاحف و المكتبات العالمية ، كما تيسر لي الاتصال بعدد من العلماء و الباحثين و كبار الكتاب المتخصصين في هذا المجال ، لم يدخروا وسعا في سبيل إمدادي بالمعلومات و مصادر البحث في هذا الحقل العلمي الوعر و المثير في آن .
كما كان للتجربة العملية أكبر الأثر في تحويل الجانب النظري إلى مبتغاه الأساسي – فالمحك الحقيقي لأي نظرية هو الجانب التطبيقي منها – حيث مارست بنفسي عددا من الرياضات النفسية و الذهنية و البدنية ذات الطابع الماورائي و التي ساهمت في شحذ طاقاتي الخاصة ، بل و التي كان لها أعظم الفضل في شفائي من بعض الأمراض التي عانيت منها زمنا طويلا – كما سيرد في تجربتي الشخصية في هذا الكتاب – و من هذه الرياضات : " هاتا يوجا " Hatha Yuga ، " راجا يوجا " Raja Yuga ، " كونداليني يوجا " Kundalini Yuga و " الأوتوترينينج " Auto Training أي ( تدريبات الشحن النفسي الذاتي المولد للطاقة ) .
و حينما راجعت مؤخرا كم المصادر العلمية التي تمكنت بفضل الله من اقتنائها آثرت أن أبثها في المكتبة العربية لعدة أسباب ، من أهمها :
1- إفادة أكبر عدد ممكن من القراء عن طريق نشر هذا اللون من المعرفة ذات الفائدة الجبارة و التي أثبتت الأبحاث العلمية فعاليتها التي لا تنكر ، ( أنظر على سبيل المثال لا الحصر مدى النجاح الهائل الذي أصبح يحققه واحد من أشهر أساليب الطب البديل حاليا ، ألا و هو العلاج بالإبر الصينية ، و الذي يعتبر واحدا من عشرات العلوم الماورائية و التي سنستعرضها تباعا ) .
2- اللحاق بركب المكتبة الدولية في هذا المجال الذي أصبحت تؤلف فيه ملايين الكتب و النشرات و الدوريات ، و تؤسس من أجله الجامعات و المعاهد و المعامل و مراكز التدريب و العلاج على مستوى العالم ، هذا في الوقت الذي ما زلنا فيه للأسف الشديد خارج نطاق الركب العالمي ، و تكاد المكتبة العربية تخلو من الدراسات الجادة الرصينة في هذا المجال ، فيما عدا المؤلفات المعتادة و التي لا يتعدى معظمها في نظري مجال الإثارة و قصص الخوارق و أدب الخيال العلمي !!!
3- العودة بهذه العلوم و الفلسفات إلى ما يليق بها من رصانة الكتابة العلمية ، محاولة لتخليص مفهوم " العلوم الغيبية " و " العلوم الماورائية " من اشتباكات و مغالطات الجهل التي خلطت بينها و بين ألاعيب الدجالين و حيل السحرة ، و هو الأمر الذي أدى للأسف – إلى جانب أسباب اجتماعية و اقتصادية أخرى تخرج عن نطاق هذا الكتاب – إلى استشراء خطورة هذا القطاع الجاهل من المشعوذين الذين يتاجرون بجراح الناس و يبتزون أوجاعهم و أحلامهم ، بل و ينجحون أحيانا في اختراق عقول المثقفين !!!
و قد آليت على نفسي أن أشرع بعون الله في كتابة سلسلة من الدراسات التي تغطي المجالات المختلفة لعوالم القوى الماورائية تحت مسمى " سلسلة القوى الخفية " ، بحيث تصدر تباعا في هيئة كتب مسلسلة لكل منها عنوانه و موضوعه الخاص الذي يسبر جانبا من موضوعات هذا العالم الخفي .
و من جميل توفيق الله سبحانه تيسير الأسباب لترى هذه السلسلة النور على يدي السيدة الفاضلة " هالة عمر " رئيس مجلس إدارة مؤسسة " هلا للنشر و التوزيع " ، وهي السيدة التي لمست فيها مضاء عزيمة و حبا للمغامرة قل أن يتوافرا في الكثير من الرجال ، فلها مني الشكر على حماستها التي وطدت إصدار هذه السلسلة .
و لما كنت أتمنى لهذه السلسلة أن ترى ذيوعا و انتشارا بين كافة طبقات القراء و المثقفين ، فقد قمت بتخليص نظريات هذه العلوم من التعقيدات الفلسفية – و بعضها موغل في الصعوبة – كما حصرت كلا منها في موضوعه ميسرا و مقدما خلاصتها للقارئ دون تهافت في التبسيط ، ليتمكن الجميع من الاستفادة منها على تنوع مستوياتهم التعليمية و الثقافية .
و لما كنت قد لاحظت أن عددا كبيرا من هذه العلوم و الفلسفات يشترك في الإلحاح و التأكيد على موضوع بعينه ، هو ما يمكن أن نسميه ( مراكز الطاقة الخفية الكامنة في جسم الإنسان ) ، فقد رأيت من المنطق أن أبدأ الاستهلال به لهذه السلسلة للسبب المذكور من جهة ، و من جهة أخرى ليكون بمثابة ركيزة عملية يستطيع من خلالها من يطمح إلى إيقاظ طاقاته الخفية و إتقان علوم الطاقة الخفية أن يقوم بتحضير نفسه عمليا عن طريق البدء ببناء ترسانته الخاصة من الطاقة الروحية / النفسية الكامنة في الجسد و التي أصبح من المسلم به أنها هي الركيزة الأساسية التي لا غنى عنها لجميع أساتذة الظواهر الخارقة البارزين في هذا المضمار .
و في هذا الصدد لا يسعني إلا أن أتوجه بمزيد العرفان إلى عدد من العلماء و الأصدقاء و الفضلاء الذين لولاهم لما رأت هذه السلسلة النور ، و هم :
1- السيد " ألبرت إجناتنكا "Albert Ignatenka العالم الروسي الأشهر في مجال الباراسيكولوجي Parapsychology و مدير معهد " الإيزوتيريك " Esoteric بأوكرانيا ، على إسهاماته الثمينة في مجال " الأوتوتريننج " .
2- السيد " يوري جيللر " Uri Geller صاحب الظواهر الخارقة و الشهير عالميا في مجالات " السيكوكينزيس " Psychokensis ، على شروحه المسهبة لتقنيات الظواهر النفسية المؤثرة على المادة .
3- الدكتور " دونالد هيل " Donald R.Hill أستاذ تاريخ العلوم العربية و زميل جامعة " أدنبرة " Edinburgh ، على بحوثه القيمة في مجال تأصيل الظواهر علميا لدى العرب .
4- السيد " ويكفيلد " C.Wakefield الأمين المساعد بمكتبة " بودليان " ، على تذليله لصعوبات الاطلاع على النسخ الرقمية المتاحة لمقتنيات المكتبة .
5- السيد " فرانسيس ماديسون " Francis Maddison أمين متحف تاريخ العلوم بجامعة " أوكسفورد " ، على مجموعاته الثمينة من المخطوطات و الأصول .
6- السيد " سوامي نيرانجانانادا ساراسواتي " Swami Niranjananada Saraswati أستاذ اليوجا و مدير مؤسسة " بيهار يوجا بهاراتي " Bihar Yuga Bharati ، على إرشاداته الروحية و التقنية في رياضتي " الهاتا يوجا " و " الراجا يوجا " .
7- السيدة " هالة حسين عمر " رئيس مجلس إدارة مؤسسة " هلا للطباعة و النشر " ، على تبنيها لمشروع السلسلة و تذليلها لصعاب النشر و التوزيع .
8- السيد " هاني الأشقر " المدرس المساعد بكلية الفنون الجميلة ، على دعمه النفسي و مساعدته القيمة في دفع الكتاب للظهور .
و الله المستعان و عليه قصد السبيل .
ياسر منجي
القاهرة في 20/12/2004
هذه السلسلة
ما معنى طبائع العناصر ؟ هل هناك قوى للحروف و الأشكال و الأرقام ؟ ماذا تعرف عن أسرار الحضارات القديمة ؟ ما هي قوى اللون و الصوت و الضوء ؟ كيف تستفيد من أسرار الأهرام ؟ ما هو العلاج بالألوان و كيف تزاوله عمليا ؟ كيف استفاد القدماء من أسرار الأعشاب و النباتات ؟ ما هو سر تمتع البعض بالجاذبية الخارقة ؟ ما معنى الحدس ، و ما هي أسراره ؟ ماذا تعرف عن عالم الرموز و أسراره و قواه ؟ هل هناك عن الأبراج غير ما يعرفه عامة الناس ؟ ما هي طاقات الأحجار و المعادن ؟ ما هي الهندسة المقدسة ، و كيف تستفيد من قوى الفراغ المحيط بك ؟ ماذا عرف القدماء عن قوى الإرادة ، و كيف سخروها ؟ ما هي الغرائز ، و ما السبيل إلى السيطرة عليها ؟ ما العقل و ما الروح ؟ ما هي علاقة العقل بالجسد ، و ما علاقة الروح بالعقل ؟ ما معنى " المكتوب على الجبين " ؟ ما هي أسرار خوارق المتصوفة ؟ ماذا تعرف عن قنوات الاتصال بين أجزاء الكون ؟ هل يمكنك أن تستعمل الإيحاء الذاتي و تستفيد من التنويم المغناطيسي ؟
الإجابة على هذه الأسئلة هي بعض طموح هذه السلسلة .
المؤلف
كلمة لابد منها
الكتابة في مجال الخوارق و العلوم الغيبية مغامرة محفوفة بالمتاعب – لاسيما في مجتمعاتنا الشرقية – لعدة أسباب جعلت من رواد هذا المجال - القديم و الحديث في نفس الوقت – هدفا مستمرا للسخرية و الشكوك و الهجوم ، و في أحسن الأحوال الشفقة المشوبة بالتندر و التفكه .
و من أهم هذه الأسباب المتعددة :
1- أن مجال العلوم الغيبية – كما يتضح من اسمه – يختص بهذه الفئة من العلوم و الطاقات التي تنتمي إلى مجالات و حقول و ترددات فائقة من الطاقة ، يتعدى مداها قدرة الحواس البشرية على الإدراك ، و من ثم في تمر بها مرور الكرام دون أن تعيرها التفاتا ، إلا في الحالات التي تكون هناك ضرورة ملحة لإحداث اتصال بين الوعي البشري و بين الأنواع المتعددة لهذه القوى و الطاقات .
و لما كان الإنسان عادة قد تعلم منذ طفولته ألا يثق إلا بما تمليه عليه حواسه بما تلمسه و تشمه و تراه و تسمعه و تتذوقه من آثار العالم المادي ، فقد إنسان العصر الحديث عشرات من الحواس التي كان يتمتع بها أسلافه البشريين من أبناء الحضارات السابقة الذين أصبحت تفصلنا عنهم عشرات الآلاف من السنين ، و الذين تفهموا جيدا طبيعة هذه القوى – كما سوف نرى – بل و طوعوها لبناء حضاراتهم التي مازالت أسرارها المذهلة عصية على الشرح و التفسير .
2- اعتماد مناهج العلوم التجريبية على المشاهدة و تسجيل النتائج التي تتحقق ماديا و معمليا ، مما صبغ عصرنا الحديث بأكمله بهذه الصبغة المادية ، و ذلك نظرا لتغلغل العلم التجريبي و تطبيقاته " التكنولوجيا " في حياتنا المعاصرة بشكل كاسح ، فأصبح اعتماد الناس حاليا في غالب نشاطات حياتهم على الأجهزة و الآلات التي ساهمت في إخماد عدد كبير من الملكات و المهارات التي كان يتطلبها الاعتماد على قدرات الإنسان ، مما جعل بعض الدراسات النفسية تتنبأ بفقدان الإنسان لمعظم ملكاته في عصر قريب بتأثير التقدم المريع للتكنولوجيا . و مما دعم الأمر أن العلم الحديث بمناهجه السابقة الذكر – و التي لا ينكر أحد فضلها رغم ذلك في تيسير سبل الحياة – قد أثر في طريقة تفكير الإنسان المعاصر ذاتها ، فنتج عن ذلك عدد من المفاهيم و الجمل الشائعة التي تشيع في قطاع المثقفين ثم لا تلبث بقية قطاعات المجتمع أن تتلقفها منهم لترددها ترديد الببغاوات مثل : " أنا إنسان متعلم ، لا وجود للغيبيات " ، أو " أنا مثقف ، التفكير الغيبي تفكير متخلف " ، فماذا يقول هؤلاء إذن إذا عرفوا – كما سوف تقرأ – أن كبريات معامل و معاهد البحث العلمي الغربية قد فتحت مجالا لدراسة و اكتشاف هذا المجال ( المتخلف !!! ) و اعترفت به و اعتبرت أن طاقاته هي بمثابة طاقات لم تكتشف قوانينها بعد ؟!!
3- سيطرة الجهل و التخلف لحقبة طويلة على مجتمعاتنا الشرقية لعدة أسباب من أهمها الاستعمار الذي رزح الشرق تحت نيره فترات طويلة من قبل مستعمرين و غزاة و ( فاتحين ) شتى ، ما بين صراعات لأمراء المماليك في مصر و الشام و اكتساح عثماني و احتلال أوربي ...إلخ ، مما ساهم في تكريس طباع التواكل و القدرية و اللجوء للغيبيات في أسوأ صورها ممثلة في الاستعانة بالجن و العفاريت و التبرك بأضرحة الموتى و اللجوء للسحرة و اعتبار البلهاء و المعاقين ذهنيا من أولياء الله الصالحين . كل هذا التراث الأسود طغى للأسف على مفهوم عوالم القوى الغيبية و طبعها بطابعه في أذهان القطاع الأكبر من أبناء الشرق ، مما جعل الباحث فيها مجبرا دائما على شروح مطولة يوضح فيها الفرق بين ما يبحث فيه من علوم رصينة و بين ألاعيب الحواة و الدجالين .
و يثور الآن سؤال هام لابد منه و هو : هل البحث في العلوم الماورائية مما يتعارض مع مفهوم الغيب كما يعنيه الدين ؟
الإجابة المباشرة على هذا السؤال تتضح من الحديث الشريف الذي ورد بصحيح البخاري و الذي نصه :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( مفاتح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، و ينزل الغيث ، و يعلم ما في الأرحام ، و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )) ( 1 ) .
هذه الأصول الخمسة للغيبيات التي لا يجوز أن يدعي أحد المقدرة على الإحاطة بها أو التنبؤ بما سوف يكون من شأنها ، و هي كما نرى لا تدخل من قريب أو بعيد في نطاق ما تنوي هذه السلسلة أن تبحثه ، فنحن لا ننوي – معاذ الله – أن نصدر مصنفات تسفه من قيمة العقل أو تتعارض مع أصل من أصول العقيدة ، إنما الهدف الأساسي كما سبق و أشرت هو الأخذ بطرف من أسرار علوم و فلسفات اكتشفت في أسرار الكون قوانين أودعها الله فيه . هذه القوانين انتبه إليها عباقرة من الأسلاف الذين ساهموا في بعث و ازدهار الحضارة عبر العصور ، بعضها اندثر بفعل الانهيار الدوري المعتاد للحضارات و ترك البعض الآخر بصيصا من الإشارات و الرموز التي كانت بمثابة علامات دالة ساهمت في بعث هذه العلوم و إعادة كشفها من جديد ، و هو الأمر الذي يسير فيه الغرب الآن بخطى حثيثة .
و ربما يلتبس الأمر على البعض نتيجة لاستخدام لفظ " العلوم الغيبية " للإشارة لهذه العلوم ، مما ينتج سوء الفهم و الخلط بينها و بين مفهوم " الغيب الديني " في ذهن القارئ ، و لتوضيح ذلك أقول أن ذلك من قبيل الدلالة الاصطلاحية ، بمعنى أن كلمة " غيبية " هي عبارة عن مصطلح يطلقه البعض على هذه العلوم نظرا لطبيعتها " الخفية " أو " الكامنة " ، و نظرا لأن قوانينها و معادلاتها لم تكتشف كاملة بعد ، فهي ما زالت في رحم الغيب .
و المشتغلون بالبحوث الأكاديمية يعلمون معنى المصطلح تماما ، فالكلمة الواحدة قد يكون لها معنى ما في القاموس ثم تستخدم استخداما دارجا مغاير في المعنى من قبل رجل الشارع ، ثم قد تستخدم استخداما ثالثا مختلف تماما كمصطلح دال في علم من العلوم ، و هذا هو ما ينطبق تماما على لفظة " غيبية " و التي تستخدم كمصطلح من قبل علماء الدين يدل على ما سبقت الإشارة إليه من علم يختص الله سبحانه و تعالى بمعرفته و يقصره على ذاته الإلهية و لا يشرك فيه أحدا من عباده .
و للابتعاد عن هذا الخلط تماما فسوف أستخدم اصطلاح " العلوم الماورائية " للدلالة على ما أعنيه من هذه العلوم ذات المجلات الخفية من الطاقة ، كما أفضل استخدام مصطلح " القوى الخفية " رغم ما يحويه من ظلال مثيرة للخيال .
ثم إن القصص القرآني لا ينفي أبدا إمكانية أن يتمتع بعض البشر بميزات و قدرات تمكنهم من اختراق عوالم القوى الخفية و اجتياز مسالكها الوعرة ، بل إن بعض الآيات تنص على ذلك صراحة ، فيقول سبحانه و تعالى :
(( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما (65) قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا (69) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (70) )) . الكهف 65- 70 .
فالآيات الكريمة السابقة تحدثنا عن لقاء سيدنا " موسى " عليه السلام بأحد الناس الذين وصفهم الله تعالى بوصف [ عبدا من عبادنا ] ، فلم تنص الآيات صراحة على أنه رسول أو نبي ، بل هو إنسان كغيره ، غاية الأمر أن الله تعالى آتاه [ رحمة ] و [ علمه من لدنه علما ] ، هذه
(1) صحيح البخاري ، دار الكتاب اللبناني ، الجزء الرابع ، ص 71 و أيضا ص 99 .
الرحمة و هذا العلم جعلاه يستحق و بجدارة أن يقوم بدور الأستاذ لواحد من أكبر الأنبياء و الرسل و هو " موسى " عليه السلام ، بل و يستأذنه " موسى " في الصحبة فيشترط عليه ذلك العالم شروطا حتى يصحبه ، ثم يكون من أمرهما ما تنص عليه باقي الآيات من أحداث يتمكن فيها هذا العبد العالم أن يهتك أسرارا ماورائية ، يتصرف بموجبها تصرفات قد تبدو للوهلة الأولى أنها غير عقلانية ، و ذلك طبقا لحكم الحواس العادية و ( التفكير المنطقي ) ، ثم نكتشف في ختام الآيات أنها هي عين العقل و عين المنطق طبقا للقدرات التي أتيحت لهذا العبد العالم و التي تصرف بناء عليها .
و الكتب المقدسة على اختلافها تحتشد بمئات من الآيات و النصوص التي تصرح بأن الكون غير مقصور على هذا النطاق الضئيل الذي تتعامل معه حواس البشر بشكل اعتيادي ، بل إنها تدل صراحة في أكثر من موضع على أن هناك عوالم متعددة ذات قوانين و طاقات و ظواهر و أحداث تتجاوز قدرة التصور البشري .
و الآيات سالفة الذكر كثيرة لدرجة أن حصرها يخرج بنا عن نطاق هذا الكتاب و موضوعه ، و لكن نتوقف هنا عند إحدى آيات سورة الذاريات و التي تصرح :
(( و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون )) الذاريات (49) .
و هو الأمر الذي يسري على كل شيء في الكون بما فيها المادة ذاتها ، فالكون المادي يتضمن الطاقة بشتى صورها المعلومة و التي ما زالت في طي المجهول بنفس الشكل الذي يتضمن به المادة بصورها و عناصرها المختلفة ، فالعالم إذن عالمان أو زوجان : عالم المادة و عالم الطاقة . * * * *
كان هذا هو تقديم كتابي الأول من سلسلة القوى الخفية ، الذي يجري نشره الآن في دار هلا للنشر و التوزيع و عنوانه " قوى الجسم الخفية " .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire